تأتي الورقة البيضاء الصينية الجديدة حول ضبط التسلح ونزع الأسلحة ومنع الانتشار في لحظة دولية حساسة، حيث يشهد النظام العالمي تحولات عميقة وتراجعًا لفكرة القطب الواحد.
الوثيقة لا تُقدَّم كإطار تقني فحسب، بل كرسالة سياسية تسعى من خلالها بكين إلى تثبيت موقعها كفاعل مؤثر في رسم قواعد الأمن العالمي خلال القرن الحادي والعشرين.
وثيقة سياسية بامتياز… وليست مجرد تحديث تقني
تعكس الورقة البيضاء إدراك الصين بأن التوازنات الدولية لم تعد ثابتة، وأن التنافس بين القوى الكبرى أصبح العامل الأبرز في صياغة السياسات الأمنية. ومن هذا المنطلق، تحاول بكين تقديم تصور شامل يربط بين ضبط التسلح والاستقرار العالمي، مع التأكيد على أن الأمن لا يمكن أن يكون حكرًا على تحالفات أو قوى بعينها.
من النووي إلى التكنولوجيا المتقدمة
لا تقتصر الوثيقة على القضايا التقليدية، بل تمتد لتشمل مجالات الفضاء، الفضاء الرقمي، والذكاء الاصطناعي. هذا التوسّع يعكس رؤية صينية تعتبر أن صراعات المستقبل ستُحسم عبر التفوق التكنولوجي ووضع القواعد الناظمة له، وليس فقط عبر التوازنات الكلاسيكية.
رفض الإملاءات وإعادة تعريف العدالة الاستراتيجية
لطالما دعت واشنطن بكين إلى الانخراط في محادثات ثلاثية مع الولايات المتحدة وروسيا، معتبرة أن تنامي القدرات الصينية قد يؤثر على الاستقرار الدولي. غير أن الصين ترفض هذا الطرح، وتؤكد في ورقتها البيضاء أن المقارنة بينها وبين أكبر قوتين نوويتين غير عادلة ولا تعكس الواقع.
خطاب “الحد الأدنى” كأداة دبلوماسية
تعيد بكين التأكيد على مبادئها المعلنة منذ عقود، مثل الاكتفاء بالحد الأدنى من الردع والالتزام بضبط النفس. لكن الجديد هو توظيف هذه المبادئ ضمن سردية سياسية أوسع، تهدف إلى تغيير قواعد النقاش الدولي وإبعاد الضغوط عنها.
رسائل غير مباشرة إلى واشنطن وطوكيو
تعتمد الوثيقة لغة حذرة تتحدث عن “بعض الدول” التي توسّع تحالفاتها وتعيد صياغة عقائدها الأمنية. ورغم غياب الأسماء، فإن الإشارات واضحة إلى السياسات الأمريكية وتعاونها المتزايد مع اليابان في منطقة آسيا-المحيط الهادئ، وهو ما تراه بكين مصدر توتر وليس عامل استقرار.
كسب الرأي العام الدولي
تخاطب الصين جمهورًا أوسع من خصومها المباشرين، مستحضرة دروس التاريخ والحفاظ على السلام العالمي، في محاولة لإقناع المجتمع الدولي بأن أمن المنطقة لا يجب أن يُدار حصريًا عبر تحالفات تقودها الولايات المتحدة.
تحديث القدرات… وسردية ضبط النفس
رغم تأكيد الصين على الاعتدال، يدرك المراقبون أن بكين تواصل تطوير قدراتها الدفاعية. إلا أن الورقة البيضاء لا تسعى إلى كشف الأرقام، بل إلى بناء “حماية سردية” تقلل من حدة الانتقادات وتُبرز أن التحديث يتم ضمن إطار محسوب.
الفضاء والذكاء الاصطناعي: قلب الرؤية المستقبلية
الجزء الأكثر دلالة في الوثيقة هو التركيز على المجالات الناشئة. فالصين ترى أن وضع قواعد مبكرة لهذه الساحات يمنحها فرصة التأثير في صياغة النظام الدولي القادم، خاصة في ظل التنافس على القيادة التكنولوجية.
الأمم المتحدة كمنصة مفضلة
تدفع بكين نحو مقاربة متعددة الأطراف تقودها الأمم المتحدة، معتبرة أن هذا الإطار أكثر عدالة وشمولًا، خصوصًا لدول الجنوب التي تشعر بالتهميش في الأنظمة الأمنية الغربية.
الصين وصناعة القواعد الدولية
تسعى الورقة البيضاء إلى تقديم الصين كصانع قواعد لا مجرد طرف مشارك. ومن خلال خطاب “الأمن غير القابل للتجزئة”، تحاول بكين بناء تحالفات معيارية مع دول نامية ترى في الطرح الصيني توازنًا أمام الهيمنة الغربية.
خلاصة المشهد: إعلان نوايا بثوب دبلوماسي
الورقة البيضاء الصينية ليست وثيقة محايدة، بل إعلان استراتيجي يهدف إلى إعادة صياغة مفهوم ضبط التسلح، وتحدي منطق التحالفات، وتوسيع دور الصين في إدارة القضايا العالمية. وبينما قد تنظر إليها واشنطن وطوكيو بريبة، يجد فيها كثيرون محاولة لإعادة توزيع النفوذ في عالم يتجه بثبات نحو تعددية أكثر وضوحًا.






