ألقى وزير الدولة وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية أحمد عطاف كلمة في الاجتماع رفيع المستوى لمجلس الأمن الأممي حول القضية الفلسطينية والحالة في الشرق الأوسط.
وجاء في الكلمة "أشكركم السيد الرئيس على تنظيم هذه الجلسة تجاوباً مع الطلب الذي تقدمت به مجموعة الدول الإسلامية في مجلسنا هذا. كما أشكر الأمين العام ، السيد أنطونيو غوتيريش، على إحاطته القيمة والملمة بالتطورات الأخيرة في مِنطقة الشرق الأوسط.
لقد أضحت هذه المِنطقة رديفةً للخراب والدمار، رديفةً للظلم والاضطهاد، ورديفةً للإجرام في أقسى صوره وتجلياته. كيف لا، وهي المِنطقةُ التي ذاقت من هذه الأهوال كلها، ما لم يذقه غيرُها طيلة عقود متعاقبة من الأزمنة والدهور.
دون أي مبالغةٍ أو مزايدة، ودون أي نعتٍ أو توصيفْ، تتحدثُ الأوضاعُ بنفسها عن نفسها، سواءَ تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية تحديداً أو بالمشهدِ الإقليمي شرقَ المتوسطي عموماً:
فعلى الصعيد الفلسطيني، لم يعد هناك أَيُّ مجالٍ للإنكار بأن ما تتعرض له غزة منذ ما يقرب العامين هي حربُ إبادةٍ كاملة ومكتملة الأركان، بعد أن أكدت ذلك لجنة التحقيق الأممية. ولم يعد هناك أَيُّ مجالٍ للجدال حول خطر المجاعة في غزة، بعد أن قامت منظمتُنا هذه بتأكيدِ هذه الحالة والإعلان عنها بصفة رسمية. ولم يعد هناك أَيُّ مجالٍ للتأويلِ حول مخططات التهجير وإعادة احتلال وضم غزة والضفة الغربية، بعد أن شرع الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذِ هذه المخططات وتفعيلها جهراً وعلناً.
أما على صعيدِ المِنطقة عامةً، فمجال الاعتداءات الإسرائيلية مفتوح على مِْصْرَعَيْهْ: عدوانٌ إسرائيلي على اليمن، ثم عدوانٌ إسرائيلي على لبنان، ثم عدوانٌ إسرائيلي على سوريا، ثم عدوانٌ إسرائيلي على إيران، ومنذُ أيامٍ قلائلَ خَلَتْ عُدوانٌ إسرائيلي آخر على دولة قطر. ولا يَخْفَى على أحدٍ منّا أن هذه القائمةَ مؤهلةٌ للامتداد والاتساع في أعقاب التهديدات التي طالت ولا تزال تطال دُوَلاً أخرى في المِنطقة.
هذا هو الواقع المُجحف والمأساوي الذي يسعى الاحتلال الإسرائيلي لتكريسه، وهو يُسارع الزمن بِفتحِ جبهات العدوان، الجبهة تلو الجبهة. إِنَّ مجلسنا هذا لم يعد بحاجةٍ لِفَكِّ الألغاز، بعد أن صار الاحتلالُ الإسرائيلي ذاته يجاهر بمآربه على رؤوس الأَشْهَادْ:
فالاحتلال الاسرائيلي يصبو أولاً للقضاء على أَيِّ أُفُقٍ من آفاقِ قيامِ الدولة الفلسطينية المستقلة والسيدة، ليس على الأرض فحسب، بل حتى في العقول والأذهان إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
والاحتلال الإسرائيلي يصبو ثانياً لإعادة رسم الحدود في المِنطقة على مَقَاسِ مِخياله ووفق أهوائِه وأوهامِه، مُستنداً في ذلك إلى أخطرِ خُرافة من خُرافاته الزائفة، ألا وهي خُرافة "إسرائيل الكبرى".
والاحتلال الإسرائيلي يصبو ثالثاً وأخيراً، إلى تكريس هيمنَتِه المطلقة على المِنطقة وتنصيبِ نَفْسِهِ الآمرَ والنَّاهِيَ فيها، يعتدي على من شاء، وقت ما شاء، وكيفما شاء. لا القانونُ الدولي يُهِمُّهْ، ولا الميثاقُ الأممي يَكْتَرِثُ لَهْ، ولا حتى أبسطُ القواعدِ والأعرافِ التي تَمُتُّ بصلة للتعايشِ المتمدن والمتحضر.
أَبَعْدَ هَذَا كُلِّهْ، يجرؤُ الاحتلال الإسرائيلي على الترويج لأباطيله المُغرضة بأن الفلسطينيين يريدون إقصاءَهْ، وهو يُنْكِرُ حقهم في الوجود، وحقهم في الحياة، وحقهم في بناء دَوْلَتِهِمْ المستقلة والسيدة؟
أَبَعْدَ هَذَا كُلِّهْ، يتجرأ الاحتلال الإسرائيلي على التسويق لِدِعاياتِه الزائفة بأنه وحيدٌ محاطٌ بأعداءَ يَرُومُونَ تدميره، وهو الذي لم يَسْلَمْ من تجبره وتسلطه وغطرسته أيٌّ دولة من دول المنطقة؟
أَبَعْدَ هَذَا كُلِّهْ، يُقْدِمُ الاحتلال الإسرائيلي على وصف ذاته بقلعة الديمقراطية وسيادة القانون في المِنطقة، وهو الذي أثبتَ للعالم أَجْمَعْ أنه أكبرُ خطرٍ على الحق والقانون، وأَشَدُّ خطرٍ على أمن واستقرار المِنطقة، وَأَعْظَمُ خطرٍ على السلم والأمن الدوليين؟
إن المآسيَ والأهوالَ التي تتكبدها مِنطقةُ الشرق الأوسط اليوم تفرضُ علينا إعادة طرح مسألة السلم والأمن فيها على أصولها الحقة، ومن منظورٍ شاملٍ لا يقبلُ التجزئة أو التقسيم. فمسألةُ الأمن في الشرق الأوسط ليست وليدةَ أحداثِ السابع من أكتوبر 2023، حتى يتم ربطُها بهذا التاريخ واختزالُها فيه، إجحافاً وتجاوزاً وتحيزاً.
تاريخُ المِنطقة مُمْتَدٌّ عبر تاريخ منظمتنا هذه، وهو يؤكد أن القضية الفلسطينية تظل القضية المركزية التي لا يمكن طمسها، ولا يمكن تحييدها، ولا يمكن تغييبها. واليوم نرى بأم أعيننا كيف أن محاولات الإجهاز على هذه القضية لم تَزِدْهَا إلا شرعيةً ومشروعية كأعدلِ قضيةٍ على وجه المعمورة.
وتاريخُ المِنطقة مَحْفُورٌ في قراراتِ مجلسِنا هذا، وهو يؤكد أنه لا بديلَ لحل الدولتين ولا مَفَرَّ من قيام الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتُها القدس الشريف، كحلٍّ عادلٍ ودائمٍ ونهائي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. واليَوْمَ نرى بأم أعيينا كذلك كيف أن مخططاتِ القضاءِ على هذه الدولة لم تَزِدْهَا إلا مَدَداً وَزَخَماً في الاعترافاتِ الدبلوماسية بها، وهي الاعترافاتُ التي ترحب بها الجزائر وتدعو إلى تعزيزِها بتمكينِ الدولة الفلسطينية من العضوية الكاملة بمنظمتنا هذه.
وتاريخُ المِنطقة مُتَجَذِّرٌ في الشرعية الدولية، وهو يؤكد كذلك أنه لا مناصَ من وضعِ حدٍّ نهائي للنظام الاستثنائي الجائر الذي يحظى به الاحتلال الإسرائيلي من اللامساءلة واللامحاسبة واللامعاقبة. واليوم نرى بأم أعيننا أيضاً كيف تيقنت أغلبية الدول الأعضاء بحتمية الردع والعقاب لِمَنْ يَحْسَبُ نَفْسَهُ وحيداً فوق كل النُظُمِ والثوابت والضوابط والقوانين التي يتقيد بها غيره.
وفضلاً عن هذا كُلِّهْ، فإن تاريخَ المِنطقةِ يؤكد أن الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط لن يتحقق دون تحمل مجلسنا هذا للمسؤوليات الملقاة على عاتقه. فمصيرُ القضية الفلسطينية، ومصيرُ الشعب الفلسطيني، ومصيرُ كافة دول وشعوب المِنطقة، كُلُّ هذه المصائر تبقى رهينةَ إرادةِ هذا المجلس وَقُدْرَتِهِ على فرضِ احترامِ قراراتِه، وفرضِ احترامِ الشرعية الدولية، وردع كل الإخلالاتِ والخروقاتِ والانتهاكات التي تتعرض لها راهناً دون حسيبٍ أو رقيبٍ أو عتيدْ.
وشكراً السيد الرئيس.