الدولي

الجزائر الحديثة: خطوات نحو المستقبل واستحقاقات إقليمية ودولية – بقلم د. ياسر غازي

لم تكن هِبة الفيول الجزائرية لإنقاذ لبنان من العتمة الشاملة، هبّةً مستجدة على مواقف الجزائريين تجاه لبنان، إنما جاءت لتكرس تقليداً (أعمق من سياسة) تاريخياً جزائرياً، قوامه سلسلة مبادرات أضاء بها بلدُ المليون شهيد ظلماتِ بلد الأرز، على أنواعها وطوال عقود من الزمن. 

 إن هذه المبادرة وما سبقها بالأمس القريب من قرار جزائري بإعادة تسيير الرحلات الجوية بين البلدين أواخر العام 2023، في وقت كانت بلدان أخرى تتجه لوقف رحلاتها الى بيروت بحجة الوضع في الجنوب، إلى مبادرات من وزن المساعدات الطبية العاجلة إبان جائحة كوفيد.. إلخ، إنما تعيد إلى الذاكرة اللبنانية دور الجزائر المحوري في إخراج لبنان من أتون الحرب الأهلية، على يد موفد اللجنة الثلاثية العربية (الجزائرية- السعودية- المغربية) إلى لبنان، الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الابراهيمي.

 صحيح أن هذه المبادرات صادرة رسمياً عن أعلى مراجع الدولة، لكنها نابعة من قلوب الجزائريات والجزائريين، ومصادَقٌ عليها بمحبة واحترام صادقين يكنّهما هذا الشعب للبنان واللبنانبيين، فمن يزور الجزائر أو يلتقي أبناءها في لبنان، يدرك حقيقة هذه المشاعر وعمقها.

أما سبب هذا التماهي، فليس من المبالغة في شيء أن شعبين تبادلا أشرعة النضال عبر المتوسط، فكراً ودماً، وتناوبا على مقارعة المستعمر والمحتل حتى التحرير، يتشاركان اليوم ثمار الاستقلال انطلاقاً من مسلمات عربية إنسانية. 

الرئيس العائد

 مبادرات السنوات الأربع الأخيرة تجاه لبنان تترجم روحية رؤية الجزائر الجديدة التي يقودها الرئيس العائد عبد المجيد تبون والمتضمنة 54 التزاماً إصلاحياً، تحت شعار “إعادة الأمل”، والتي نقلت البلاد من ضفة الى أخرى اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

فلدى انتخابه في 12 من ديسمبر (كانون الأول) 2019 على وقع ما سمي بالحراك الشعبي في وجه سعي الرئيس السابق عبد العزيز بو تفليقة التجديد لولاية خامسة، تسلم الرئيس تبون الحكم في جزائر ممزقة اقتصادياً ومنهكة سياسياً، وأخذ يسهر على تنفيذ التزاماته الإصلاحية وسط مقاومة سياسية له خاضتها مواقع نفوذ الدولة العميقة المحسوبة على ما يصفها بالعصابة، وهي منظومة الحكم السابق ولوبياته الاقتصادية والإدارية.

وعشية إعادة انتخابه أعلن الرئيس تبون عن الإيفاء بأكثر من 70 % من الالتزامات التي أطلقها في بداية ولايته الأولى، وقد كان ذلك بلا شك أحد أبرز الأسباب التي دفعت بالناخب الجزائري لتجديد الثقة برئيسه لولاية ثانية وبتفويض كبير. 

 الإصلاحات المؤسساتية

استكمال ترميم هياكل مؤسسات الدولة وتنقيتها, شكل الهاجس الأول للرئيس تبون بعد إنجاز الاستفتاء على تعديل الدستور عام 2020، فاتخذ من محاربة الفساد بكل أوجهه مدخلاً لتحقيق هذا الهدف, فكانت أبرز ترجمات التوجه الجديد:

 1- إنشاء وتنصيب السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، بهدف تحقيق أعلى مؤشرات النزاهة في تسيير الشؤون العمومية، من خلال جملة من الصلاحيات المخولة لها.

وقد حرص الرئيس تبون على إيجاد آليات أكثر مرونة في استرجاع ممتلكات الدولة وتخفيف الإجراءات البيروقراطية، بما يمكن من استعادة كل الأموال المنهوبة، وكذا انتهاج الواقعية في التعامل مع ملفات مكافحة الفساد عبر اعتماد آليات بسيطة مباشرة بعيداً عن التعقيدات التي هدفها إطالة عمر هذه الظاهرة.

2- تنصيب المحكمة الدستورية التي تشكل هي الأخرى محطة جديدة من محطات البناء المؤسساتي للدولة وتعميقاً للممارسة الديمقراطية في الجزائر, لاسيما وأن دستور (الفاتح- نوفمبر) 2020 أفرد للرقابة الدستورية حيزاً مهماً.  

3- تنصيب المجلس الأعلى للشباب الذي يضم 348 عضواً من بينهم 232 عضواً منتخباً، بعنوان تمثيل شباب الولايات، ينتخب لدورة واحدة، ويتميز بالمناصفة بين الجنسين. ويعتبر المجلس هيئة استشارية لدى رئاسة الجمهورية, تقدم توصيات واقتراحات متعلقة بحاجات الشباب وازدهاره في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية وغيرها.

4- استحداث المرصد الوطني للمجتمع المدني الذي يمثل هو الآخر إطاراً للحوار والتشاور والاقتراح والتحليل والاستشراف في كل المسائل المتعلقة بالمجتمع المدني وترقية أدائه, بالإضافة الى مشاركته مع المؤسسات الأخرى في تحقيق أهداف التنمية الوطنية.

الإصلاحات الاقتصادية

بدأ الرئيس تبون من نقطة أساسية وهي ضرورة أن تلعب الدولة دورها كضابط إيقاع أساسي في العملية الاقتصادية وقد نجح إلى حد كبير في هذه النقطة والتي تشكل أرضية مهمة لإعادة البناء الاقتصادي. فركّز  على التحسن الاجتماعي والاقتصادي الذي حصل خلال حكمه، وتابع عن كثب مسيرة انتعاش ثالث أكبر اقتصاد في أفريقيا. وبالاعتماد على المداخيل غير المتوقعة في الميزانية بسب ارتفاع أسعار الغاز منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، تمكنت البلاد من مضاعفة صادراتها من الغاز لتصل الى 100 مليار متر مكعب عام 2022، فتجاوز معدل النمو الـ 4 % عام 2023 وارتفعت احتياطات النقد الأجنبي من 62 إلى 70 ملياراً، وتمكن الرئيس من رفع الرواتب ومعاشات التقاعد ومِنَح البطالة بين الشباب، الذين أطلقوا عليه لقب “عمّو تبون”.

ويعتبر قانون الاستثمار الجديد الذي أقر في ولاية تبون الأولى، جوهرة الإصلاحات الاقتصادية، هذا القانون الذي حرص الرئيس على أن يكون في جوهره بعيداً من هيمنة الإدارة. ولعل أفضل مثال على رغبة السلطات في إحداث تغييرات عميقة في بنية الاقتصاد هو إعلان الرئاسة في مناسبات عديدة عن رفع التجميد عن مئات المشاريع التي كانت تقبع في دهاليز الإدارة.

سياسة الجزائر الجديدة التي طبقها تبون انعكست أيضاً في القطاع الزراعي بحيث بلغ مثلاً الإنتاج المحلي من القمح نسبة 80 % من الاكتفاء الذاتي الذي تسعى الحكومة لبلوغه عام 2027.

ورغم ذلك، تجثم أمام الرئيس تبون في عهدته الثانية تحديات يدرك جيداً مشقة مواجهتها، ليس أقلها تنويع الاقتصاد وموارد الدولة والإقلاع عن سياسة الاعتماد على النفط والغاز، ومحاربة البيروقراطية المتجذرة في الإدارة وكذلك لوبيات المنظومة السابقة، ومكافحة التضخم المؤدي إلى تآكل القدرة الشرائية والإطاحة بجهود زيادة الرواتب، مع ما لذلك من انعكاسات اجتماعية.

السياسة الخارجية

“التوجه شرقاً” هو العنوان الواقعي للسياسة الخارجية الجزائرية منذ أربع سنوات خلت، من خلال تعزيز العلاقات مع كلٍ من أنقرة – الدوحة – بكين وموسكو برغم بعض البرودة مع الأخيرة بفعل احتكاك المصالح في شمال أفريقيا، وبحكم التحولات الجيوسياسية العالمية والعربية والإقليمية، فيما كان قرار تقليص مستوى التعاون الاقتصادي مع فرنسا كواقع فرضه الحراك الشعبي بعد سقوط رموز النظام السابق، بينما اختارت الجزائر تعزيز تعاونها مع كل من إيطاليا والبرتغال لأسباب تتعلق باعتدال مواقفهما السياسية إزاء الجزائر.

وكانت القمة العربية 2022 بعنوان “لمّ الشمل” فرصة لتأكيد مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للجزائر، وسمحت القمة باتخاذ قرارات تاريخية تضمّنها، “إعلان الجزائر” أساسها الدعم المطلق لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ناهيك بالتمسّك بمبادرة السلام العربية 2002، ومواصلة الجهود لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران- (جوان) 1967 وعاصمتها القدس.

ويسجل للجزائر حصد تأييد 143 بلداً حول مشروعها في مجلس الأمن، لمنح فلسطين العضوية الكاملة في هيئة الأمم المتحدة. كما لعبت الجزائر بصفتها عضواً غير دائم في مجلس الأمن دوراً محورياً في الجهود الهادفة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة. ورغم عدم استساغة الغرب لمواقفها بشأن فلسطين والقضايا العربية إلا أن الجزائر تبقى حاجةً له نظراً لاعتدال سياستها ومواردها الهيدروكربونية، وضرورةً للشرق بالنظر لإمكاناتها وقدرتها على لعب دور الوسيط في مختلف النزاعات.

ولا ينسى العالم التجربة الجزائرية في حركة عدم الانحياز، وتأسيساً عليها، ما لعبته من أدوار الوساطة الإقليمية ذات المصداقية في منطقة الساحل الأفريقي (مالي والنيجر)، وفي ليبيا، كما لم تتخلّ عن القضية الصحراوية كقضية مبدئية بالنسبة لها. وكذلك إنجازاتها سواء في تسوية النزاع الحدودي بين العراق و إيران 1975 أو أزمة السفارة الأميركية في طهران 1981 والنزاع المسلح بين إثيوبيا و أريتريا 2000.

لكن ثمة استحقاق جيوسياسي سيكون على الجزائر مواجهته في المرحلة المقبلة، بوصفها دولة ذات وزن في منظمة أوبك، وأكبر مصدر للغاز في أفريقيا، وأبرز الموردين حاليا إلى أوروبا، يتمثل بالصراع المحموم على غاز شرق المتوسط، والمتوقع أن يلتهب في اليوم التالي للحرب في غزة، لا سيما وأن لإسرائيل الباع الطولى في تلك البقعة، ومشروعها المنافس للغاز الجزائري في السوق الأوروبية.  

لقد بدأ الرئيس تبون عهدته الثانية وهو في الطريق إلى بناء اقتصاد عصري قائم على إنتاج القيمة، هو لم يصل بعد لكنه في الطريق إلى المستوى الذي يليق بالجزائر. سواء تعلق الأمر بالنموذج الجديد للإنعاش الاقتصادي ومستوى المعيشة، وضمان شروط الحياة الكريمة، أو تعلق الأمر بحفظ مكانة ودور الجزائر إقليمياً ودولياً، وصولا إلى تحقيق شعار “الجزائر الحديثة”.

*إعلامي وباحث في العلاقات الدولية

بواسطة
ألجيريا برس
المصدر
بقلم د.ياسر غازي من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى