فقدت الساحة الفكرية والدبلوماسية الدولية أحد أبرز الأصوات التي دافعت عن فهمٍ عميق للجزائر وتاريخها، بوفاة الباحث والمفكر البريطاني هيو روبرتس، الذي وافته المنية ليلة الأربعاء الماضي عن عمر ناهز 76 عاما، بعد صراع مرير مع مرض السرطان دام خمسة أشهر.
وفاة روبرتس أثارت موجة تأثر واسعة في الأوساط الأكاديمية والسياسية، خصوصا في الجزائر، البلد الذي ارتبط به فكريا وعاطفيا منذ سبعينيات القرن الماضي، حين بدأ رحلته في التدريس بولاية البويرة بمنطقة القبائل، وهي التجربة التي شكلت بوابة لانخراطه العميق في دراسة المجتمع الجزائري.
خريج جامعة أكسفورد، بدأ مساره بتدريس اللغة الإنجليزية في الجزائر، قبل أن يتحول لاحقا إلى أحد أبرز الباحثين في الشأن الجزائري داخل كبرى الجامعات، مثل East Anglia وLondon School of Economics، ثم في الولايات المتحدة حيث شغل منصب أستاذ جامعي في جامعة تافتس حتى عام 2022.
كما تميز روبرتس بأسلوب تحليلي يجمع بين التاريخ الاجتماعي والأنثروبولوجيا السياسية، واشتهر بكتاباته حول النظام السياسي في الجزائر وهياكل الحكم التقليدية، خاصة في منطقة القبائل. في مؤلفه الأبرز "Berber Government"، قدم قراءة دقيقة للنظام الجماعي القبلي ما قبل الاستعمار، وفضح التصورات الاستشراقية التي اعتبرت هذه المجتمعات "بلا دولة".
لم يكن روبرتس مفكرا أكاديميا فقط، بل لعب أدوارا فاعلة كمستشار استراتيجي، خاصة خلال الأزمة الأمنية في الجزائر منتصف التسعينيات، حين قدمت تحليلاته لشركات كبرى مثل BP، مؤكدا أن الدولة الجزائرية ستصمد في وجه الإرهاب، وهو ما كان له أثر في استمرارية الشراكات الاقتصادية رغم العاصفة.
كما قاد بين 2002 و2007 برنامج شمال إفريقيا لدى International Crisis Group، حيث ساهم في إنتاج تقارير تحليلية شكلت مرجعية للدبلوماسيين وصناع القرار بشأن المنطقة المغاربية.
ظلت الجزائر محور اهتمامه حتى آخر أيامه، حيث لم ينقطع عن الكتابة والتدريس حول تحولات البلاد، من مرحلة ما بعد بوتفليقة إلى حراك المجتمع المدني، وصولا إلى تحديات الإصلاح السياسي والدستوري. وقد عبر في ربيع 2024، وهو في قمة معاناته مع المرض، عن رغبته في زيارة الجزائر للمرة الأخيرة، لكن القدر لم يمهله.
وبرحيل هيو روبرتس، تفقد الجزائر صوتا نزيها ومؤمنا بها، وصديقا فكريا ظل مدافعًا عن حقيقة هويتها وتاريخها في وجه الاختزال والتشويه. غير أن إرثه العلمي سيبقى شاهدا على عمق التزامه، ومرجعا لكل من أراد أن يفهم الجزائر كما هي، لا كما تُروى.